لقراءة النُّضْج الرّوحيّ ليُوْسِف الصدِّيق1
مرحلةُ وجوده في السجن
لم يَكْفِ أن يكون يوسف قد تشرّد عن بيت عزّه إلى أرضِ الشّقاء ظُلمًا وبهتانًا، بل وصل به الحال إلى إلقائِه في السّجن نتيجة طهارته ووفائه. وما كان من أمرهِ أنّه لم يمس امرأته فحسب، بل حينما "أمسكته بثوبهِ قائلةً اضطجع معي، ترك ثوبه في يدِها وهرب وخرج إلى خارج". نجدُ في كيفيّة تعامل هذا الشّاب الصدّيق مع ظروفِ حياتهِ القاسيةِ معادلةً طرديّةً عجيبةً تتمثّل في ازديادِ لمعان ثباته في البرّ والنقاوة كلّما ازدادت ضيقات حياته وطأةً وشدّةً، وكلّما قاسى ظُلمًا فوق ظُلمٍ، ازداد نعمةً فوق نعمةٍ. فبسط الرّب "إليه لطفًا وجعل نعمة له في عينّي رئيس بيت السجن. فدفع رئيس بيت السّجن إلى يد يوسف جميع الأسرى الّذين في بيت السّجن. وكلّ ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل". لم يكن يوسف يعلم أنّ إدارتَه لبيتِ السّجن كانت تدريبًا وتمهيدًا لإدارةِ منصبٍ أوسع نطاقًا وأعلى شأنًا بما لا يُقاس، إلّا أنّه بدافعٍ من نضجهِ الرّوحيّ، كان منفتحًا لِمَا في فكر الرّبّ من مشروعٍ وإرادةٍ في ثقةٍ وتسليمٍ عظيمَيْن.
مرحلةُ قيادة يوسف لأرضِ مصر
عَبَر يوسف نَفَق ضيقاته المظْلم دون أدنى درايةٍ فيما إذا كان سينجلي الظّلام في مخرجٍ مُقبلٍ، وعمّا كان في فكرِ الرّبّ من تدبيرٍ لخروجه من السجن، إلّا أنّه اختبر على أرضِ واقعِ محنتهِ "أنّ كلّ الأشياء تعمل معًا للخير للّذين يحبّون الله، الّذين هم مدعوّون حسب قصده". إلّا أنّه دارت الأيّام وحلّ ملء الزّمان الّذي فيه تحقّقت الأحلام، وتبدّلت الأحوال وصار السّجين بغتةً رئيسًا على كلِّ أرضِ مصر. للرّبِّ أوقاته الّتي لا تخيب أبدًا، فلو أخبره رئيس السّقاة عن يوسف فورَ خروجهِ من السّجن، لَمَا عَنيَ فرعون في الأمر، لكنّه تذكّر وعده ليوسف في الوقتِ المناسب، الّذي احتاج فيه فرعون إلى من يُفسّر حلمه الخاص ولم يكن من يُعبّره له. وكان قد بلغ يوسف من العمرِ ثلاثين سنة عندما تولّى منصب الرِّئاسة، أي أنّه قضى ثلاثة عشر سنة في ذلِّ العبوديّة، كان يتلذّذ فيها بالرّبّ، فأُعطي سؤل قلبه.
مرحلةُ اللقاء بإخوتِه
يا لها من مرحلةٍ مؤثّرة جدًّا لِمَا احتوى قلب يوسف من مشاعرِ المحبّةِ الأخويّةِ الحانيةِ، وموقف الغفران الشجاع، عبّر عنها باحتضانِ اخوتهِ ودموعهِ. لا بل تُوِّجت مسيرتَه المفعمةِ بالضّيقاتِ والمحفوفةِ بالتّجاربِ بِخُلاصةٍ ذهبيّةٍ فارقة: "أنتم قصدتم لي شرًا. أمّا الله فقصد به خيرًا". ولم يقل: "قصد بي خيرًا"، بل "قصد به"؛ فلم تكن ذاته مركز حياته يدور في فَلَكِها، لذا، كان يوسف خيرَ اختيارٍ لأنْ يكون القائد المدبّر، الّذي بواسطته أنقذ الله شعبه والأرض بأسرها.
موتُ يوسف
كانت كلمات يوسف الوداعيَّة مفعمةً بالثقةِ والإيمانِ العظيمين من جهةِ افتقاد الرّب بيت أبيه، مستودعًا إيّاهم في حفظِ الرّبّ ورعايتِهِ، كما استحلفهم بثقةٍ نبويّةٍ أن يُصعدوا عظامه من مصر عند مجيء وقت الرّبّ في افتقاده إيّاهم . مشهدُ الوداع هذا غير مُستَغرَبٍ على شخصيّةٍ كهذهِ رافقها الرّبّ وعرفته وسط أكثر أزمات الحياة صعوبةً، مستثمرًا إيّاها بنقاوةِ قلبٍ وتسليمٍ وطولِ أناةٍ، لِمَا يعود بتحقيقِ وعد الرّبّ ومشيئته من جهِة نجاة شعبه وخلاصهم.